بين صفحات "إمبراطوريات متخيلة": فهم التغيرات في قرى الصعيد
في كل مرة أجلس مع أهلنا في قرى الصعيد، يطرح عليَّ الكثير من الأسئلة التي تتعلق بالتغيرات الكبيرة التي شهدتها قراهم. يتساءلون عن سبب تبدل الأحوال، وكيف أفل نجم أسر وعائلات كانت لها دور كبير في القرى، بينما صعدت أسر وعائلات أخرى إلى الصدارة. يتساءلون أيضًا عن الثروات التي كانت تملكها أسرهم وكيف اختفت في فترة وجيزة. الإجابات على هذه الأسئلة ليست بسيطة، إذ أن لكل قرية ظروفها الخاصة، ولكل أسرة قصتها وحكايتها.
إنما هناك كتاب يمكن أن يقدم لنا فهمًا أعمق لهذه التغيرات. إنه عمل جليل وذو قيمة عالية، رغم أنه قد لا يحظى بالاهتمام الكافي اليوم، إلا أنني واثق من أن سيأتي من يثمنه ويضعه في مكانه الصحيح في المستقبل. هذا الكتاب هو "إمبراطوريات متخيلة" للدكتورة زينب أبو المجد.
بين صفحات التاريخ المهمل: سردية جديدة للصعيد في كتاب زينب أبو المجد
في تاريخ مصر الطويل والمعقد، يبقى الصعيد منطقة ذات أهمية حضارية وثقافية، لكنه دائمًا ما يعاني من التهميش والإهمال في الروايات الرسمية. يأتي كتاب الباحثة المصرية زينب أبو المجد ليقدم رواية بديلة لهذا التاريخ، ساعيًا لكشف النقاب عن صفحات مظلمة ومعاناة مستمرة لسكان الصعيد تحت حكم الإمبراطوريات المتعاقبة، وخاصة في عهد محمد علي باشا.
يعتمد الكتاب بشكل كبير على مؤرخ مصر العظيم عبد الرحمن بن حسن برهان الدين الجبرتي، الذي وصف بوضوح كيف أن إبراهيم باشا، ابن محمد علي، مارس أقسى أنواع العنف والاضطهاد ضد أهل الصعيد. وصف الجبرتي تعذيب الناس بطرق وحشية، ما يعكس قسوة الحكم المركزي تجاه هذه المنطقة في تلك الفترة القاتمة من حكم محمد علي. تتجلى هذه الصورة في وصف الجبرتي لأهل الصعيد وهم يعانون كالكباب المقلب على النار، مما يعكس مدى البؤس والظلم الذي تعرضوا له.
كان الصعيد في الماضي مركزًا علميًا واقتصاديًا، حيث ازدهرت فيه المدن مثل قنا وقوص وإسنا، وكانت مراكز للعلماء والفقهاء. يروي الكتاب كيف تحولت هذه المدن إلى مناطق مهمشة ومعزولة تحت حكم الدولة المركزية في القاهرة. أصبحت هذه المناطق مجرد "حيز مكاني" تابع للقاهرة، فقد فيه الصعيد هويته واستقلاليته الثقافية والاقتصادية.
تعتبر الباحثة زينب أبو المجد الرواية الرسمية لتاريخ مصر الحديثة هي رواية انتقائية كتبتها البورجوازية القاهرية. تقول أن هذه الرواية تهدف إلى تمجيد محمد علي باشا كمؤسس لمصر الحديثة، مغفلةً عن قصد معاناة أهل الصعيد. تشير أبو المجد إلى أن هذه الرواية تتجاهل الدور الحيوي للصعيد في المقاومة ضد الاحتلالات المختلفة والمشاركة في الثورات الشعبية.
لماذا "إمبراطوريات متخيلة"؟
يقدم هذا الكتاب تحليلًا تاريخيًا عميقًا ومعتمدًا على مئات الوثائق المحلية، مما يساعد على فهم الديناميكيات التي أدت إلى هذه التغيرات الكبيرة. يشرح الكتاب كيف عمدت الإمبراطوريات الاستعمارية المتعاقبة، بدءًا من العثمانيين إلى الفرنسيين ثم البريطانيين، إلى تهميش الصعيد وتدمير بنيته التحتية. هذه السياسات أسهمت في تغيير توزيع الثروات وصعود وهبوط نجم الأسر والعائلات.
الدكتورة زينب أبو المجد تقدم لنا رؤية بديلة لتاريخ الصعيد تختلف عن الرواية الرسمية التي تركز غالبًا على القاهرة والنخبة الحاكمة. هذه الرؤية البديلة تساعد في فهم الأسباب الحقيقية وراء التغيرات التي شهدتها القرى والعائلات في الصعيد. إنها تدعونا لإعادة النظر في تاريخنا من منظور أهل الصعيد أنفسهم، الذين عانوا وتحدوا وصمدوا أمام تحديات كثيرة.
قصص وحكايات من الوثائق:
يحتوي الكتاب على قصص وحكايات مأخوذة من وثائق تاريخية تعكس حياة الناس في الصعيد ومعاناتهم، مما يقدم صورة أوضح وأكثر إنسانية للتغيرات التي شهدتها المنطقة. من خلال قراءة هذه الوثائق، يمكننا أن نلمس معاناة الأجداد ونفهم الجهود الكبيرة التي بذلوها في مواجهة الصعاب.
أدعو كل من يتساءل عن التغيرات في قراهم وعن أسباب أفول نجم بعض الأسر وصعود أخرى، إلى قراءة كتاب "إمبراطوريات متخيلة". هذا الكتاب ليس فقط تحليلًا تاريخيًا، بل هو أيضًا توثيق للمعاناة والجهود التي بذلها أهل الصعيد على مر السنين. من خلال هذا العمل، يمكننا أن نفهم التغيرات الاجتماعية والاقتصادية بشكل أفضل، ونقدّر الجهود التي بذلها أجدادنا في مواجهة التحديات التي واجهتهم.
بقراءتنا لهذا الكتاب، نعيد الاعتبار لأهل الصعيد ونمنحهم صوتًا في صفحات التاريخ. إنه دعوة لإعادة كتابة التاريخ برؤية أكثر عدالة وشمولية، تقدّر الجهود والتضحيات التي بُذلت على مر السنين.
دمتم بخير، وكل عام وانتم بخير
0 تعليقات
شاركنا تعليقك، وتذكر انك محاسب امام الله على ما تكتبه