منارة العلم وقائد المقاومة في وجه الغزو الفرنسي في زمن الأزمات
،
يظهر القادة العظام الذين يجسدون الصمود والإيمان بقضية الأمة.
أحد هؤلاء القادة
العظماء هو الشيخ محمد الجيلاني، الرجل الذي جاء من الحجاز مصحوبًا بجيش من سبعة
آلاف مقاتل، معظمهم من قبيلتي جهينة وحرب، ليواجه الحملة الفرنسية على مصر. كان
وصوله رمزًا للأمل والصلابة، إذ لم يكن هدفه مجرد القتال بل تجسيد قيم العلم والورع
والتضحية.
إن الشيخ الجيلاني يعتبر شخصية القرن الثالث عشر الهجري بلا منازع، فأي
موضع من مواضع الخلود تُذكر ولا تجد للشيخ الجيلاني فيه أثراً؟ وأية ناحية من نواحي
البقاء ترقب ولا تجد للجيلاني فيه خبراً؟ فالجهاد كان الجيلاني شعلته المضيئة، وفي
الزعامة كان البطل المغوار والفارس الجسور.
زعيم بات يستلب الأرواح والقلوب بعلمه
وبهاء طلعته وفصاحته، ويختلب النفوس بقوة أخلاقه، لا بقوة سلاحه.
منذ اللحظة الأولى
لوصوله، أدرك نابليون خطورة هذا الرجل وقوته، فكلف قائديه ماك شيهي ودوكا بتتبعه
ومراقبة تحركاته. ولكن، ، لم يصل إلينا الكثير عن هذا الرجل ودوره سوى سطور قليلة
مبهمة.
لأن ارادة المستعمر دائما اخفاء أثر كل بطل ومحو سيرته. حاول المؤرخ لطف
الله جحاف تقديم صورة كاملة عن الشيخ الجيلاني، إلا أن مخطوطته "قرة العين في
الرحلة لبلاد الحرمين" تظل مفقودة، مخفية في ظلال التاريخ تنتظر من يكشف عنها
الغبار. وبالرغم من الجهود الفرنسية في اخفاء سيرة ذلك البطل ،ما وجدناه في مراسلات
القادة الفرنسيين يقدم لنا لمحات هامة من حياة الشيخ الجيلاني.
في خطابات ماك شيهي،
الضابط المكلف من نابليون بمتابعة الجيلاني، وكذلك في مراسلات دوكا، حاكم القاهرة،
تتجلى صورة رجل صلب، يتحدى الصعاب، ويقود مقاومة شرسة ضد الغزو. هذه الوثائق
الفرنسية، التي تظل محتاجة لمن ينفض عنها غبار الزمن، تساهم في إضاءة جزء من حياة
هذا القائد الفذ. رحلتي إلى فرنسا لم تكن كافية لجمع كل ما كُتب عن الشيخ الجيلاني،
لكن مازلنا ننتظر من الباحثين الجادين المزيد من الاكتشافات. في الأرشيف العثماني،
وجدت الكثير من الوثائق التي أضافت لمعرفتنا بالرجل، لكنها أيضًا تفتح بابًا واسعًا
للبحث والتدقيق. تلاميذ الشيخ، مثل محمد التهامي الأوبيري، قدموا لنا جزءًا من
سيرته في مخطوطات مثل "اتحاف الخل المواطي"، التي حصلنا عليها من الخزانة الحسينية
بالمغرب. هذه المخطوطات، بالإضافة إلى روايات المثقفين في القرى، تقدم لنا صورة
أكثر شمولية، وإن كانت لا تزال غير مكتملة. لقد كانت المهمة شاقة، ولكنها ضرورية
لإحياء ذكرى هذا الشيخ الجليل. في القرى، قابلت أشخاصًا قليلين يعرفون الكثير عن
الجيلاني، لكن هؤلاء الأفراد قدموا لي روايات ثمينة تساهم في رسم صورة أكثر وضوحًا
عن حياته وأعماله. ذهبنا نتتبع خطى الشيخ الجيلاني، محاولين جمع شتات الوثائق
وتفاصيل حياته، بدأنا رحلتنا في الأرشيف الفرنسي، حيث استخرجنا المراسلات بين
القادة الفرنسيين حول هذا الرجل الفذ، ثم اتجهنا إلى الأرشيف العثماني الذي قدم لنا
رؤية أعمق وأشمل عن دوره ومقاومته. في دار الوثائق المصرية، وجدنا بعض الوثائق التي
أضافت لمحة أخرى إلى سيرة هذا الشيخ الجليل.
لم يكن بحثنا مقتصرًا على الوثائق
الرسمية فحسب، بل ذهبنا نتلمس أخبار الرحل في القرى التي مر بها أو عاش فيها تلك
الفترة القصيرة من الزمن. التقى فريقنا بكبار السن من أبناء هذه القرى، الذين قدموا
لنا رواياتهم الشفهية عن الشيخ، مضيفين لمسات حية وصورًا ناطقة لتاريخ الرجل. كان
لأسرة الشيخ، الأسرة السباعية من أهل المغرب- وهم أهل علم اشتهروا بأنهم أرباب
السيف والقلم - .دور كبير في مساعدتنا. هذه الأسرة الكريمة لم تبخل علينا بكل ما
لديها من مخطوطات وكتب حول تاريخ الأسرة وتاريخ الشيخ الجيلاني. جلسنا معهم لساعات
طويلة، استمعنا لمروياتهم الشيقة والممتعة عن حياة الشيخ، وأمدونا بكل ما يملكون من
وثائق ومعلومات، مما أضاف بعدًا جديدًا وعمقًا للبحث.
هذا العمل لم يكن من وحي
الخيال أو مجرد ادعاء نسب بالرجل واسرته ، بل كان مستندًا إلى تحقيق دقيق ودؤوب،
مدعومًا بالوثائق والشهادات التاريخية. لقد سعينا جاهدين لجمع الحقيقة من مصادرها
المختلفة، وتقديم صورة واضحة ومتكاملة عن حياة الشيخ الجيلاني، هذا العالم المجاهد
الذي ترك بصمة لا تُمحى في تاريخ مقاومة الغزو الفرنسي لمصر. إن قصة الشيخ الجيلاني
هي قصة رجل تحدى الصعاب، واجه الاستعمار بعزم وإيمان، وأضاء دروب العلم والحرية
لجيله وللأجيال القادمة. نأمل أن يكون عملنا هذا إسهامًا بسيطًا في حفظ تراث هذا
الرجل العظيم، وتخليد ذكرى بطولاته وإسهاماته في صفحات تاريخنا المجيد.
إن كتابة
هذا المقال تُمثل محاولة لتكريم ذكرى الشيخ محمد الجيلاني، الذي لم يكن مجرد عالم
زاهد، بل كان قائدًا مقاومًا، عالِمًا ومجاهدًا، رجلًا جسد معاني العلم والصمود في
آن واحد. في الختام، يُعد الشيخ الجيلاني رمزًا للأمل في زمن الشدة، ومثالًا
للتضحية والعلم في مواجهة الجهل والاستعمار. إنه منارة تضيء دروب الباحثين عن
الحقيقة والباحثين عن الأمل في زمن التحديات. فليظل ذكره حيًا في قلوبنا وعقولنا،
وليكن دافعًا لنا لمواصلة البحث والتنقيب عن كنوز تاريخنا العظيمة.
0 تعليقات
شاركنا تعليقك، وتذكر انك محاسب امام الله على ما تكتبه