وادي حجازة: شريان الصحراء وسجل التاريخ يمتد وادي حجازة كخيط فضي يربط بين النيل
والبحر الأحمر، كأنه شريان ينبض بالحياة وسط قسوة الصحراء. رغم قلة الماء والكلأ
والزروع، إلا أن هذا الطريق كان شاهدًا على أحداث جسيمة في كل عصر، وغنيًا بحكايات
وقصص تغذي خيال الأجيال. عبر التاريخ، كان وادي حجازة موطنًا للقبائل البدوية
والعربية، كقبائل جهينة الحضر وحرب الحضرية، اللتين لعبتا دورًا مهمًا على مر
العصور. شهدت هذه القبائل معارك وفتوحات منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وتركت بصماتها على كل شبر من هذا الوادي العريق. في كل منعطف من الوادي، تتداخل
الأحداث والقصص كلوحة فنية نابضة بالحياة. الرحالة الأجانب، بدءًا من جيمس بروس إلى
بوركهارت، نقلوا إلينا صورة حية عن حياة القبائل البدوية حول هذا الطريق، كأننا
نشاهد فيلمًا هوليوديًا مليئًا بالإثارة والمغامرات. بوركهارت، الإنجليزي الشغوف
بالاستكشاف، يحكي لنا عن قبيلة العوازم التي سكنت لفترة من الزمن حجازة بجوار جهينة
وحرب. كانوا يعيشون حياة بدوية مليئة بالتحديات، لكنهم أيضًا كانوا مثالًا للصمود
والشجاعة. عبر صفحات كتبه، ينقل إلينا تفاصيل حياتهم اليومية، حكاياتهم، وصراعاتهم،
وكأننا نعيش تلك اللحظات بأنفسنا. الوادي، برماله الذهبية وصخوره الصامدة، كان
شاهدًا على مرور قوافل التجار، وغارات المحاربين، واحتفالات الأعراس. كل حجر فيه
يحتفظ بذكرى، وكل نسمة هواء تحمل رائحة التاريخ. هنا، تلتقي قصص الحب بالحروب،
وتتصادم أحلام الفلاحين برغبات الغزاة، في ملحمة إنسانية تروي لنا كيف استطاعت هذه
القبائل أن تبقى وتتحدى الزمن . بينما تسير في وادي حجازة، يمكنك أن تشعر بوقع
أقدام الرحالة الأوائل، تسمع همسات قصصهم، وترى بعيونهم المناظر التي سحرتهم. إنه
مكان يبعث فيك الإحساس بالعظمة والتواضع في آنٍ واحد، يذكرك بأنك جزء من تاريخ
طويل، وأن كل خطوة تخطوها تضاف إلى سجلات هذا الطريق الأسطوري. في نهاية الرحلة،
عندما تصل إلى حجازة، تجد نفسك أمام لوحتين تاريخيتين نابضتين بالحياة: جهينة الحضر
وحرب الحضرية. هاتان القبيلتان، اللتان شهدتا الكثير من المعارك والفتوحات، لا
تزالان تحتفظان بجوهرهما وروحهما البدوية الأبية. إنهما تجسدان الروح الحقيقية
لوادي حجازة، الروح التي تأبى الانحناء للزمن، وتظل شامخة كجبال الصحراء المحيطة
بها. العوازم في حجازة ومعركة الفرطلة في قلب الصحراء الشرقية، عند نهاية وادي قنا
في موضع يقال له الفرطلة ) وهي على مسيرة يوم شمال أسيوط بالصحراء الشرقية، وهذا
المكان يضيق فيه الوادي حتى يصير مرمى حجر) ، ينبض موضع الفرطلة، بذكرى تلامس أرواح
العوازم، وتلهب خيال الصغار والكبار على حدٍ سواء. الفرطلة ليست مجرد اسم مكان، بل
هي ساحة لأعظم انتصار سطّره العوازم على أرض مصر، انتصار مدوٍ عاشوا على مجده
وتغنوا به جيلاً بعد جيل، وحق لهم ذلك، إذ كان هذا الانتصار رمزًا لعزتهم وكرامتهم،
يستحق أن يُخلد في صفحات التاريخ. في أحد أعراس العوازم، حيث كان الفرح يعم الأرجاء
والناس في زينة وسرور، أتى الراعي ظاعن الجهني ليقدم في "السامر" أمورًا لم ترضِ
العوازم. ظاعن هذا، الذي نزل هو وأخوه ظُويعن وأمهما وأخواته مع العوازم من
الجزيرة، كان يعيش بينهم كواحد منهم، يرعى إبلهم ويشاركهم حياتهم. لكن ما حدث في
العرس غير كل شيء، إذ قام أحد العوازم بضرب ظاعن أمام الناس، مما أشعل فتيل الغضب
لدى جهينة الحضر الذين كانوا يشهدون العرس ويقيمون في البلدة المجاورة للعوازم، وهي
حجازة من أعمال قوص. تحرش جهينة بالعوازم أشعل نيران الصراع، وأججت القلوب، فما كان
من قبيلة حرب، التي كانت تقيم مع جهينة في نفس البلدة منذ زمن بعيد، إلا أن اتفقت
مع العوازم ضد جهينة. وبهذا التحالف بدأت معركة الفرطلة، التي ستظل خالدة في ذاكرة
العوازم كرمز للشجاعة والتضحية. لكن القبيلتين، حرب وجهينة، اتفقتا على عدم التدخل
في شئون البدو حرصًا على علاقتهم التي لا يصح أن تتدهور بسبب البدو الذين يتنقلون
وراء المرعى أينما كان. أما ظاعن، فقد انسحب بأخيه تاركًا العوازم، واتجه شمالًا
نحو المنيا وما والاها، حيث كانت القبائل كالحويطات والمعازة والأشراف وغيرها. بدأ
ظاعن يحرضهم على العوازم قائلاً: "أنتم تعيشون على السلب والنهب، وأموال العوازم
تملأ السهل والجبل ولا حراس لها". انضم إليه كثيرون، طمعًا في الثراء. وفي صباح أحد
الأيام، هاجموا العوازم في حجازة، لكنهم لم يجدوا إلا شيخًا كبيرًا يُدعى مبارك
وحفيده المُعرس الجديد، فذبحوهما وساقوا الإبل شمالًا عبر وادي قنا، مطمئنين أن
العوازم في الحملة، وحتى لو لحقوا بهم، فماذا يفعل هؤلاء البضعة والثلاثون رجلًا مع
هذا الجمع الغفير؟ ولكن كان هناك رجل يدعى المعيتري، شهد ما حل بجيرانه العوازم،
فآلى على نفسه أن يُفزع العوازم ويخبرهم بما حل بهم. انطلق مهرولًا على طريق
الحملة، بلا راحلة، وسار بقية يوم الغارة وليلته، وفي ضحى اليوم الثاني، وجد
العوازم - لحسن الحظ - على بعد أربعين كيلومترًا من قنا، راجعين بالحملة، بعد أن
قطع نحو ثمانين كيلومترًا. أخبرهم المعيتري بالخبر، فقطع العوازم أحمال الإبل
بالسيوف وتوجهوا إلى الحكومة وأخبروها أن تجارتها في موضع كذا وأن إبلهم قد سُرقت.
عرضت عليهم الحكومة المساعدة والسلاح، فأبوا، وتزودوا بالبارود والرصاص، وانطلقوا
في أثر القوم. كانوا بضعة وثلاثين رجلًا، لا يألون جهدًا في السير خلف القوم في
وادي قنا، ولكنهم كانوا يعلمون أن العدو يفوقهم عددًا وعتادًا. لذا قرروا أن يسبقوا
القوم ويكمنوا لهم في الفرطلة، وهي موضع يضيق فيه الوادي حتى يصير مرمى حجر. إذا
استطاعوا الوصول إلى الفرطلة قبل القوم، فقد ضمنوا النصر واستعادة إبلهم وثأرهم.
وإن وصل القوم قبلهم واجتازوا الفرطلة، فإن اللحاق بهم سيكون نهايتهم. اتفق العوازم
على هذا الرأي، وكان الذي أشار به عودة بن رشدان الجابري، فسلكوا الوديان الجانبية
الموازية لوادي قنا يطوون المسافات طيًا. وصلوا الفرطلة ليلًا، فتبينوا أثر المسير،
فلم يجدوا شيئًا، فحمدوا الله أن القوم لم يصلوا بعد. خبأوا إبلهم في التلاع
المجاورة للفرطلة، وكمنوا على أتم استعداد بالبارود والسيوف يترقبون قدوم القوم.
وفي الصباح، نظروا فإذا المبشر الأول يطوي الأرض وسط الوادي ليبشر القوم في المينا
وحماضة بنجاة الإبل، فلم يلفت نظره شيئًا، وتركه العوازم لشأنه. بعد وقت جاء المبشر
الثاني، وكان من الأشراف، فاعترضوه وأحاطوا به. عرف أنهم العوازم واستخبروه عن عدد
القوم وعتادهم. قال: "كم عددكم أنتم؟" قالوا: "نحن بضعة وثلاثون رجلًا". قال: "يا
عرب، بحرما لكم فيه حيلة، فالعدد كثير جدًا". صوب أحدهم بندقيته نحوه، فمنعه
العوازم قائلين: "إن عمك الشريف حرام عليه النار". أوثقوه بالحبال وضربوه بحجر ضخم،
فاندق رأسه فمات. وفي وقت لاحق، بدت طلائع الإبل يقودها راعيها ظاعن الجهني،
وغالبية القوم في المؤخرة، ومنهم في الميمنة والميسرة. يقول الراوي: إن ظاعن كان
نائمًا على راحلته، فلما جاء وسط العوازم فزع من نومه يقول: "النار النار". كان
العوازم قد فتحوا عليه النار بعد حلمه المزعج، فخر صريعًا. ودوى البارود من كل
مكان، ففزعت الإبل وارتدت إلى الوراء، وفزع القوم في مؤخرة الإبل التي فاجأتها
فرقعة البارود الذي لا يعرف مصدره. وكان العوازم يتصيدونهم واحدًا واحدًا. اندفع
القوم ليجتازوا المضيق، إذ ليس للحي مفر من ذلك، فمات منهم من مات ونجا من نجا.
تبرز القوم بعيدًا، ودوى البارود حتى دخل عليهم الليل. كان المغيرون قد تبرزوا في
مكان بعيد تصله بندقيتان: بندقية عودة بن رشدان الجابري، والأخرى بندقية للخواورة
يسمونها المروس. كان معظم سلاح العوازم الفتيل، وهو نوع من السلاح كان منتشرًا في
أوساط البادية في القرنين الماضيين. ظل القوم يتراشقون بالبارود حتى أسدل الليل
ستاره. ركب العوازم وساروا خلف إبلهم التي ارتدت من صباح ذلك اليوم، وقد لحق بها من
يبلغها الأمان. حث العوازم المسير خلف إبلهم حتى لحقوا بها وقد اقتربت من وادي
أسيوط المنحدر نحو النيل غربًا تجاه أسيوط، فسلكوه بدلًا من وادي قنا. ثم واصلوا
سيرهم محاذاة للنيل حتى بلغوا قاو ليلًا، وهي بلدة جنوب أسيوط ما زالت باقية حتى
الآن. كان المعيتري جارهم قد خلفوه وراءهم، غير أنه لم يستطع الصبر، فسار بمحاذاة
النيل شرقًا حتى أدركه المبيت عند بلدة قاو. بات عند أحد الفلاحين ليتحسس أخبار
قومه، وبعد العشاء بفترة سمع ضجيجًا ورغاء حوار صغير، فسأل: "هل في المنطقة إبل؟"
فقالوا له: "لا توجد إبل هنا أبدًا". فعرف المعيتري أن هذه إبل قومه، فاعترضهم وحمد
الله على سلامتهم، وركب معهم ورجعوا إلى حجازة، موطنهم جنوب قنا. كان المعيتري قد
سار ما يقرب من مائتي وعشرين كيلومترًا شمال قنا ماشيا. ولقد كان لهذه الواقعة
أثرها المدوي في أوساط عربان مصر في تلك الفترة ولفترات طويلة، وأثرت على مجريات
أمور كثيرة. لعلها كانت السبب في عدم توغل تلك القبائل نحو أعالي الصعيد كقنا
وسوهاج وأسوان. إذا ما استثنينا أشراف قنا الذين توطنوا قبل تلك المعركة بزمن بعيد،
والمقصود بالأشراف الذين كانوا في المنيا وسط العربان أي كانوا بدوًا في تلك
الفترة. أما العوازم، فظلوا فترة لا يتوغلون شمالًا، ثم ما لبثوا أن غلبوا على تلك
البلاد، وكانت لهم الزعامة في أسيوط والمنيا وبني سويف حتى الآن. بل إن بعض العوازم
الذين اشتركوا في معركة الفرطلة سكنوا المنيا على مرأى ومسمع من تلك القبائل دون أن
يهابها أو يقيم لها وزنا؛ وهو عودة بن رشدان الجابري الذي أقام فترة طويلة في
المنيا في بلدة تُدعى جلدة بفتح الجيم وتسكين اللام وفتح الدال انظر رحلة بوركهارت
لصعيد مصر - جيمس بروس- لويس ديفيل- موسوعة القبائل العربية
0 تعليقات
شاركنا تعليقك، وتذكر انك محاسب امام الله على ما تكتبه