المشروع الكبير نهر النيل بحجازة


المشروع او الترعة
اسم جاء من الصفة وتناقلته الالسن كما هو دون ارهاق للعقل بتفاصيل لغوية فيكفى ما تحمله الكلمة من ود وذكريات فمتى كانت الحروف الا مترجم ليس الا هذا المشروع يعبر قريتنا من اقصاها الى اقصاها يمر فيها كشريان رئيسى وهو عمودها الفقرى وهو واهب الحياة لارضها وزروعها لانه يسقى غالبية اراضى القرية ومنه تتفرع المصارف والموالح فهو الضيف المرحب به دائما وهو حامل الخير الوفير وعلى ضفافه المتواضعة تهدر ما كينات الرى رافعة المياة الى ارض غنت له شوقا وطربا وترى الشواديف تشاركها الغناء وعلى جرفه ترى اشجار الظل فاتحة ذراعيها تصد الغبار والشمس وتحمى البيوت والناس من شراسة الحر وترطب الشوارع وتنقيها وهى اشجار من كل لون صفصاف وكافور ونخل واثل وسدر وسنط وسسبان وغيرها الكثير من خيرات الضفاف وهى تقوم بدور اخر مهم حيث تعمل على تماسك

التربة على ضفاف الترعة فتمنع الانهيارات الارضية وانزلاقات الاتربة للداخل وحين ياتى الليل تفتح مرةاخرى ذراعيها لاستقبال الطيور العائدة

للمبيت فهى فنادق مجانية وقلب مفتوح لكل العاشقين والقادمين بحثا عن الامن والامان والظل والراحة وتلاحظ عند مرورك على الترعة وجود سكة حديدية تنقل خير ارضنا الى المصانع الهادرة بمدينة قوص حاملة القصب وحاملة معه الامال بالخير الوفير هذا القصب الذى يخرج منه اجود انواع السكر فى العالم فهو عصب الاقتصاد وهو الذى يحلى مرارة الحياة ومن ارضنا يخرج الحلا فما احلاكى حجازتى وما احلا محاصيلك ايضا تلاحظ وانت تعبر بجوار الترعة اسراب الصيادين القادمين الى ضفافه حاملين السنارات وكأن المشروع قد تحول الى محيط يعج باسماك السردين والسلمون واسماك القرش والحيتان الزرقاء لكنهم ما جاءوا بحثا عن الاسماك فالاسماك هناك تقاس بالسنتمتر وليس بالبوصة انهم قد جاءوا ليهربوا من حر البيوت وملل الحياة (وليطعموا الاسماك) بحثا عن الثواب والاجر وبعد ساعات من الجلوس تصطاد السنارة (نموذج سمكة) فيضطر الصياد الى اعادتها الى الماء مرة اخرى فهو لا يجرؤ ان يعود الى البيت حاملا (سمكته السنتمترية) معه حتى لا يسمع الجملة المشهورة(يا ما جاب الصياد لامه) فيقوم باهدائها او (الاعتذار لها عن الازعاج) ويعيدها مرة اخرى للمشروع لكن العجيب ان هناك بعض الصيادين المحترفين يصطاد احجاما ضخمة من فصيلة(القرموط) واحجاما لاباس بها من البلطى والبياض لكنهم محترفون ويملكون سر الخلطة والطعم الجيد كامل الدسم وهم على الارجح لا يصطادون الا بالشباك وليس بالسنارة وفى موسم الجفاف يعم الخير من الاسماك حيث تنحصر المياة فتظهر الاسماك فى القاع فيسارع الاهالى لبناء الحواجز وشفط الماء ليتسنى القبض على الاسماك متلبسة فى طين الترعة وباحجام كبيرة طالما راوغت الصيادين فيكون يوما مشهودا توزع فيه الاسماك على كل البيوت ويعود الطاجن من جديد الى المائدة مخرجا لسانه للميلامين والصينى فالسمك خلق للطواجن وتلاحظ ايضا وانت تمر على الترعة عشرات السباحين الهاربين من قسوة الحر وضيق البيوت الهاربين الى الترعة بحثا عن برودة الماء والتمتع باللعبة الحجازية المشهورة(حراجك) وهى لعبة عنيفة تستخدم فيها الاقدام للهجوم والدفاع

وهى تجمع بين البالية المائى والكاراتية وتمثل خطورة شديدة لانها كما قلت عنيفة لكن ممتعة لاصحابها والناس فيما يعشقون مذاهب,, يسبحون غير عابئين بكلام المرحوم محمد رضا عن البلهارسيا وعتابه الشديد (لعيد) فنزول الترعة بالنسبة لهم (عيد) وسواء نزل بظهرة او براسه فالبلهارسيا(لن ترعى) فى جسده فالعلاج الان متاح ومجانى وليس بعد اغراء(الترعة) من اغراء,, ايضا تلاحظ حتى الدواب قد نزلت للترعة بحثا عن( حمام منعش) فتراها تلهو مستمتعة بالماء ومعها اصحابها يقومون بالتلييف لها وهم ايضا مستمتعون فما احضروها الى لتكون حجة لهم يتحججون بها كى ينزلوا الترعة بدون انتقادات وترى على ضفافه ليلا الناس وقد افترشوا الارض هاربين من الحر يرطبون الروح بنسائم الهواء البارد التى تمر فوق الماء حاملة رائحة الخضرة واصوات الليل هذا
هو الترعة وقد تم حفره كما حفر غيره فى عصور السخرة والاستعباد فحشدت اليه جيوش العمال من كل محافظات مصر فقراء عرايا يحملون خرقة بالية فيها ثوب ازرق كان هو النوع الوحيد الذى يلبسه الجميع مصنوع من نفس الخامة ويحمل نفس اللون (فما اعدل الفقر) يساوى بين الجميع فى الحرمان ويظلم لكنه يالا العجب عادل فالمساواة فى الظلم عدل لقد جاءت جيوش العمال تساق كقطيع الاغنام حاملين اجولة من الخبز المحمص (قرقوش) واناء يحمل زادا لاينضب ولا يتعفن ولا يتكبر على عشاقه (المش) وكانت اجورهم زهيدة ايام النكلة والتعريفة وكان العمل قاسيا بلا معدات ولا تقنية بل بسواعد الرجال الناحلة وتحت لهيب الشمس وجحيم الغربة والفقر بدءوا ملحمة حفر المشروع وتوقفت عجلة الزمن لترى هياكل الرجال تنبش صخر الارض وتشق مشروعا ملئوه بالدموع والدماء قبل ان يمتلئ بالماء فقد انتشرت بينهم الامراض ومات الالاف
منهم ومن يموت يدفن حيث مات بلا كفن ولا مراسم فلم يكن هذا زمن الهاتف وصحائف الوفيات والناس افقر بكثير من شراء كفن لشخص غريب مات خارج وطنه كما مات من قبل داخل حدود ذاته وعلى ضفاف الترعة قامت المشاحنات والتعصبات بين العمال وتاججت نار الحقد والحسد وجاء الفقر من جديد ليساعد الاخ على رفع يده نحو اخيه ليقتله طامعا فى تعريفة وبعض قطع القرقوش والقاتل يواصل الحفر والقتيل

يرقد فى قاع المشروع فلقد تعلمنا من الغراب كيف نوارى سؤة اخينا الا تلاحظ مقدار الخوف المتاصل فى قلوب الناس من الترعة يخافون منه لانه يسكن قاعة عشرات الجثث والقتلى وتحف حوافه لعنة الفقر وتهيم على جوانبه كل الارواح المعذبة فى عالم البرزخ تئن بظلمها وتطوف حول المكان تبحث عن دمائها التى تجرى مع ماء الحياة حكايات وحكايات تروى عن ملاحم حفر الترعة والظلم والامل وبكاء الوادى لكنك حين تجلس مع الجد متاملا اخاديد وجهه وخرائط الاحزان على جبينه ستعرف كيف كانت الحياة فى زمن القرقوش وحين تساله عن حكاية قديمة سيصمت طويلا ويخفى كثبان الحزن فى وجهه ويقول هذا زماااااان (ايام كحيت البحر)ها هى الترعة شرايين القرية المسافر فى حناياها حاملا الخير وماء الحياة لكن اين القلب الذى يغذى هذه الشرايين انه نهر النيل انه هناك على بعد كيلومترات منا رابض من الاف السنين يفيض بالنعمة والبهاء ويرسم بالحكمة على ضفافه ويحتضن التاريخ والحضارات التى قامت على شواطئه ليعلم العالم كله ان الزمان بدء من هنا وهنا كنا قبل الزمان

إرسال تعليق

0 تعليقات