وصف سيول 1979 بصعيد مصر قرية حجازة كأنها تراها

 









كتب دكتور فوزى على احمد

بمناسبة مرور 41 عاماً علي السيل الذي أجتاح حجازة 20 أكتوبر 1979

أليكم منشور دكتور فوزي كاملاً "



اعتاد أن يأتى شارعنا من آن لآخر ، ينادى على أعشابه الجبلية ، وعلى كثرة أو قلة ما كان معه من أعشاب، لم يكن ينادى إلا على عشبي
 ( الحرجل وحلف البر) بصوت ضعيف ، يمد النطق بالكلمات مدا لا تسمح بذلك اللغة ، وإن سمح به عجز القلب عن ضخ الهواء ليستقيم النطق. انحنى ظهره على دابته، فاعتمد على
عصاه، وقد وضعها مستعرضة على ظهر دابته، ممسكا بطرفيها، بطىء الحركة بدابته العرجاء، وكأنها أبت إلا أن تشاركه الوهن،حافيا غير منتعل لعله عجز عن شراء الحذاء لا زهدا فيه، يرتدى جلبابين أو ثلاثة رقع بعضها، وبعضها ترك حتى ليكاد يظهر بعضها من بعض، وعلى كثرة ما قصد شارعنا ما رأيت أحدا أوقفه أو اشترى منه،ولم يكن معنيا برد السلام لانشغاله بما هو فيه وللحكاية بقية. جاء الرجل كعادته ينادى عند الضحى على أعشابه، فمر أمام رهط من الناس، فلم يلق سلامه، ولم يكد يتجاوزهم بخطوة أو خطوتين حتى التفت إلى يساره قائلا لهم:هناك كارثة ستحدث فادعوا الله بالنجاة، وولى ولم يعقّب. فتساءل أحد الجالسين: لماذا لا يكون هذا الرجل وليا - وإن كان بائعا - قد جاء منذرا ؟ قدر للسماء يومها أن تمطر، ثم اشتد مطرها، فأرعدت وأبرقت، ثم اشتد مطرها، ويقيت على ذلك الحال أربعة عشر يوما، وفى يومها الخامس عشر بلغ هطول الأمطار ذروته، حتى كان أقرب إلى السيل المنهمر منه إلى الأمطار، وهنا علا صوت شيخ مسن فى أهل الشارع: هذا ما حذرنا منه بائع الحرجل وحلف البر، ما بقاؤكم هنا تنتظرون الموت تحت الجدران اللبنة؟ أخرجوا الأطفال والنساء إلى الضفة الغربية من الترعة الكبيرة،وليصعد الرجال الجبل؛ ليستخبروا السيل، ولم يكد ينتهى الشيخ من مقالته حتى كان أول المهرولين، وتبعه الرجال والصبيان بقى الجمع فوق الجبل يستطلعون خبر السيل القادم من الظهيرة حتى أذن لصلاة العصر، وبينما هم على ذلك حتى بدا من جهة الصحراء على البعد رجل يمتطى ناقته، يسرع نحوهم، فاستبشروا بالخبر عنده فانتظروه ونفوسهم تتقدّ؛ لتعرف ما وراءه،
ونادى الرجل من بعيد: السيل خلفى، السيل خلفى،فانظروا ماذا تفعلون؟ 

 أخري رجع الناس سراعًا إلى مدخل القرية من جهة الجبل، وقد أجمعوا رأيهم أن يحصروا السيل فى الشارع الكبير للقرية؛ ليصب ماءه فى الترعة. شرع الناس فى إقامة السدود فى مداخل الشوارع المتفرعة منه من جذوع النخل والأحجار الكبيرة، ثم سحبوا عليها من تراب الأرض ورمالها، ثم غطوها بالقش وعسب النخيل، بدت السدود عملاقة فى نظرهم، وقد ارتقعت إلى ما فوق المتر، فوقف الناس خلفها، مستريحين إلى ما أقاموه فى وجه السيل يطمئن بعضهم بعضا بأن السيل مهما علا فلن يتجاوزها. وبينما الناس على ذلك إذ علت الأصوات بأن السيل قد اقترب، فهو يبدو لعين الرائى، فخف البعض ثم عاد مسرعا، يصيح بأن السيل ملأ الصحراء، وخيرٌ لهم أن يتركوا القرية كلها ليلحقوا بالنساء والأطفال فوق الترعة، ولم يعطهم السيل فرصة كبيرة للتفكير واتخاذ القرار، فما هى إلا دقائق حتى كان قد هجم على القرية من جميع جوانبها، وانحصر أكثر مائه فى الشارع الكبير، فقطع المسافة من أول القرية إلى الترعة فوت الريح، وكان الظلام بدأ يحل، والسماء يزداد مطرها، وبدا تأثر البيوت اللبنة من آثار المياه، والناس تتقيها والمياه لا زالت متصلة لا تنقطع، تملأ الشارع، وقد بدت عكرة، وحملت من أعشاب الجبل وأخشابه ما حملت، وقد علاها الزبد نادى أحدهم فى الآخرين: أن احذروا ما حمل الماء من عقارب الجبل وحياته وعناكبه. بقى الناس على ذلك ينتظرون، ولم يطل انتظارهم؛ إذ أخذت السدود تنهار مرة واحدة، فأسرع الناس هاربين، والماء يلهث
خلفهم، والبيوت تتساقط عن أيمانهم وعن شمائلهم. وللحكاية بقية أخيرة فوجئ الناس عندئذٍ أن الماء قد تسرب من شوارع أخرى، فإذا هو أمامهم، غير أنه يمكن لهم أن يخوضوه، فخاضوه، و هم لا يزالون يتفادون ما يتساقط من البيوت؛ ليلحقوا بنسائهم وأطفالهم، حتى استقر بهم المقام فى الضفة الغربية من الترعة، منهم من استظل بنخلة، ومنهم من استظل بأثلة، ومنهم من احتمى بكوخ،وهم يتأملون ما يحدث،فلا يرون إلا ظلاما، يزيحه البرق من آن لآخر، فيكشف عن ماء يعقبه ماء، تمتلئ به الأرض، وهم لا يكادون يصدقون. قضى الناس ليلتهم ينتظرون، ولم ينقطع الماء إلا فى الثلث الأخير من الليل، وهم يتشوقون للصباح، وأشرقت الأرض بنور ربها، وفتح الناس أعينهم فلم ترَ إلا ماء غمر كل شىء، وقد تخلله النخل، لتدخل البلدة فى طور جديد. تلك مشاهد رأيتها، ولا زالت ماثلة تتحرك أمام عينىّ لسيل دمر البلدة فى عام ألف وتسعمائة وتسعة وسبعين، وأنا يومها دون الثامنة. ما الذى أبقاها ماثلة بعد هذه السنين الطوال، ولا يبقى فى الذاكرة ما حدث أمس؟ عجيبة ذاكرة الإنسان تنتقى من الأحداث ما تشاء؛ ليبقى بعضها، ويفنى الآخر. ورغم أن السيول عرفت طريقها بعد ذلك إلى بلدتنا، بقى ذلك السيل حدثا جللا يؤرّخ به للأحداث، فيقولون: هذا الحدث قبل السيل الكبير، وهذا بعده، وكأنه عام الفيل عند العرب.


الصورة في مقدمة التدوينه هى من زيارة السيد انور السادات رئيس الجمهورية انذاك الى قرية حجازة قبلى

كانت هذة الصورة امام مدرسة حجازة قبلى الاعدادية ..يظهر فى الصورة المرحوم الحاج محمد ابوتل السندلاوى والحاج رشدى عبادى ابوبال الترجمى والمرحوم عبدالله القاضى المروانى واخرين







يمكنك الاطلاع على الرابط التالى
https://gate.ahram.org.eg/News/2522975.aspx

إرسال تعليق

0 تعليقات