الدبة



الدبة ماهى الدبة هى كلمة مشتقة من كلمة دبيب ويقال دب يدب والدبة كمكان فى موضوعنا هذا هى روح القرية عندما كان لها روح وهى عبارة عن مجموعة من البيوت متجاورة وملتصقة وملتفة حول بعضها البعض يتوسطها فناء واسع تفتح فيه جميع هذه البيوت ولا يمكنك الوصول الى اى بيت من البيوت الا بمرورك عبر الفناء الخارجى الذى لايوجد له الا باب واحد او بوابة هى بمثابة القلب الذى يفتح لك ذراعي

وفى حجازة توجد عشرات الدبات ان صح هذا الجمع ولاتوجد قبيلة او عائلة فى حجازة لايوجد فيها دبة اما عن الدبة فعند دخولك من البوابة فان اول ما يقابلك هو الفناء الواسع والصدر الرحيب الذى هو مكان الوناسة فى ليالى الصيف الحانية حيث تجتمع النساء فى زاوية من الفناء وحولهن جرار المياة(جمع جرة) وهن يفترشن الارض على حصر من القش والاطفال راقدون فى حجور الامهات بين اليقظة والنوم والحكايات والطلاسم تسرى الى اذانهم مع هبات النسيم وفى مدخل الدبة يوجد الخيمة او المندرة وفيها يتجمع الرجال فى اوائل الليل يهربون من حرارة البيوت الى الديوان يرتشفون اكواب الشاى ويرطبون بماء المزاير(جمع زير) ذلك الزير الذى عجزت الثلاجات عن مضاهاة طعم الماء الخارج منه يجلسون ويحكون ويخططون لمستقبل بعيد ونفس هذا المشهد الحالم يعود ليتكرر فى ليالى الشتاء ولكن لان الشتاء لايرحم فان النار تكون هى الصديق الحانى حيث تتجمع النساء حول نار المدفئة مع استبدال براد الشاى ببراد الزنجبيل بالقرفة والاطفال يمرحون حول النار ويمصون القصب ويلقون المصاصة فى قلب المدفئة وعندما ترتخى الاجفان ويسدل ستار الليل بهدوء تقوم كل امراة برفع طفلها والذهاب به الى مخدعه

وتعود لاخذ الاخر وهكذا حتى تعود بهم جميعا وتتفرق الصاحبات الى مخادعهن ورائحة بخور الليل تغمر الفناء وما هى الا لحظات حتى تتفرق جلسة الرجال ويعودون الى منازلهم تاركين الجمر تحت الرماد يشتعل





بحرارة الطيبة والود ودفئ القلوب ومع دخول اخر واحد من السكان يتم اغلاق البوابة بالغلق والسقاطة وهو نوع من الكوالين الخشبية وتمر الليلة حانية لا يقطع صوتها الا صوت لطشت خان الامانة واذاع السر وعندما يؤذن الديك للفجر الجديد تسمع اصوات الرجال وخشونة كحة الصباح وتشم رائحة النار والشاى الصعيدى وتغمر انفك رائحة الخبز المحمص وبعد لحظات تسمع صوت الكارو وصلصة الحديد وخلال ساعة تنتهى كل هذه الضجة ويغادر جميع الرجال الى اعمالهم فقد كان هذا زمن الرجال والعار كل العار ان تتعطل يد عن العمل وبمجرد خروج الرجال تتحول الساحة الى ساحة معركة فتخرج النساء الجاموس والابقار للشمس وترى الدجاجات تمرح تحت الماشية وتنقب بارجلها كعمال البلدية وترى

حبال الغسيل قد امتلئت ولا تجد ركن واحد فى الدبة لا يوجد به عمل فهذه تغسل وهذه تطبخ وكل واحدة تساعد الاخرى وتحرس لها خبزها حتى تعود وترى الاطفال يمرحون فى الدبة هذا اخ لهذا وهذا ابن عم هذا فيكبرون على الحب لا على الاحقاد كبيرهم يرعى صغيرهم والصغير يحترم الكبير ومع انتصاف النهار واقتراب الظهر تتفرق النساء عائدات الى البيوت لتبريد المياة للرجال وتحضير طعام الغذاء واخلاء الفناء الخارجى لكى تعبر الكرات والحمير بحمولاتها من الحشيش وهذا وقت تعرف فيه المرأة ان زوجها فى هذه الحالة اشبه بعود من الثقاب قابل للاشتعال فتحرص تماما على مراسم الاستقبال بحفاوة وبعذب الكلام واشهى الطعام مع توفير ملطفات الجو من ماء بارد وبطيخ ورش المنزل بالماء لتبريد الارض والجو والتاكد من نوم الصغار وبعد الغداء ينام الجميع ليستيقظوا عصرا ويتجمعون حول شاى العصرية او شاى الساعة الخامسة وهى العادة الوحيدة التى ورثناها عن الانجليز يشربون الشاى مع قطعة بسكوت او فص محمص وبعدها يذهب الرجال للتسوق او تقديم واجب العزاء او عيادة مريض وغيرها من المشاوير اليومية فتخلو الساحة وتعود النساءللتجمع من جديد لقضاء العصرية فى شبه دائرة يتعاتبن ويمزحن ويتبادلن الاخبار والمعلومات وبعض الحسابات النقدية









البسيطة والتى تتعلق بالبيض والجبن الى جانب بعض الاسئلة والاستشارات التى تطرحها الشابات الصغيرات على العجائزوصاحبات الخبرة حول امور الحمل والولادة والرضاعة اما عن الشكل الوصفى

والهندسى للدبة فهى فناء واسع يكون احيانا شبه مستدير او مربع او مستطيل لكنه فى العموم فناء واسع تفتح فيه ابواب البيوت ونوافذها وتحت جدران الدبة توجد الدواوين والدكك وربما توسط الدبةشجرة مثل السنط او الجميز وبعضها يتوسطه كافورة او صفصافة وبعضها يتوسطه اشجار النخيل وبين النخلة والنخلة يمتد حبل الغسيل وتحت النخلة ترعى جاموسة اليفة ودجاجات يكرهن الرجيم والاطفال يتسابقون لالتقاط البلح او البليح ومن اشهر علامات الدبة وجود الطلمبة او الطرمبة فى جوانب الفناء وهى تكون عامة للجميع برغم وجود واحدة فى كل بيت وبعض الدبات فى حجازة يوجد فى زاويتها بئر قديم مازال موجود للان وبقايا بكرة كانت تستخدم لرفع الماء ملقاة فى بيت احد سكانها وهناك دبات

مهجورة حاليا لكن عند دخولك اليها تلاحظ طراز البن اء الموجود فيها هو القباب ومبنية بنظام الحواصل حيث الباب صغير ولا توجد نوافذ وانما طاقة باعلى الحائط تسكنها حمامة او يمامة وطاقة اسفل منها فى منتصف الجدار لوضع اللمبة الجاز(الاندة) او لمبة (نمرة عشرة) وتشبه دبات حجازة غيرها من دبات مصر فهذا الطراز المعمارى تجده فى كل محافظات مصر بل وفى كل الدول العربية تقريبا مثل حارات دمشق القديمة وحارات مدينة القدس وحارات المغرب والمكلا وصنعاء باليمن وغيرها الكثير من الدول العربية بل والاجنبية فنظام الدبة موجود على مر التاريخ وانظر لمسلسل باب الحارة وزيزينيا واقرأ تاريخ ابواب القاهرة مثل باب الغورى وباب الوزير وباب زويلة الذى يعرفه الجميع والذى كان ارجوحة الاعناق قديما فكم من عنق تأرجح على هذا الباب
هذه هى الدبة بجمالها واصالتها كانت روح القرية وكان بابها واحد وعشرات البيوت يجمعها باب واحد هو الامان وهو القلب المفتوح وكل امراة بالداخل هى اخت الجميع وكل رجل هو ابن عم جمعتهم الدبة وجمعت قلوبهم وارواحهم وافراحهم وابتساماتهم عشقوا ضجيجها ورائحة







قدورها حين كان القدر يدور على الجميع, فى هذه الدبة شبت عيدان الرجال وخرجوا من بابها الوحيد الى جامعاتهم وكلياتهم اطباء ومهندسين

ورجال اعمال لكنهم لم ينسوا ذلك الباب ولا رحابة الفناء ولا روائح الخبز وطعم البيوت فى هذه الدبة كبرت بنات صغيرات وانطلقن نحو الانوثة

وخارج الباب نحو مدرج الجامعة ونحو حياة المدينة لكنها لم تنسى مراتها المعلقة على جدار المكان وفستانها الذى يرفرف فوق حبل متين اعتصمت به القلوب الطيبة لم تنسى امواج المهنئات بالخطوبة ولا وسامة العريس القادم عبر بوابة التاريخ بوابة الدبة وبوابة القلوب انها حجازة ودباتها انها جدران لم تكن تعرف الخيانة ولم تكن تخدع احد ولا فرقت يوما بين اخ واخيه والان فى حجازة الجديدة مازالت الدبات باقية للان لكن شتان بين اخلاق اليوم واخلاق الامس فلم يعد الفناء يجمع القلوب بل يجمع الناس كل يوم على اصوات المشاكل والشتائم لم تعد النساء تتبادل الاحاديث بل تتبادل الردح والعتاب الفاحش والاطفال داخل الدبة الواحدة مقسمين الى مجموعات الاخوان ضد اولاد العم وكل واحد يغلق عليه بابه ويغلق قلبه فى وجه الاخرين وجاء الحديد والاسمنت ليشق الدبة الى شوارع ودروب

وتتوالد الابواب من بعضها البعض ويرتفع البناء وتنكشف حرمات البيوت ويضيع الحلم بين غابات الاسمنت وتضيع الطيبة, وحين تنظر الى ظل الرجال تجدهم بلا ظلال وحين تعبر الفناء لاتشم رائحة الخبزولا تفتح لك الحوائط احضانها ولن تجد الزير ولا الحصير لان الدبة قد سكتت الى الابد


















إرسال تعليق

0 تعليقات